-
بل يهمني وليس أنا " مالي "
الإسلام لا يوصي بقهر الناس و جبرهم على الاعتقاد و العمل، فكل ما يصدر عن الإنسان من فعل أو قول بدافع الحرية و الاختيار المسؤول، سواء كان ذلك حسنا أو قبيحا، لأنه لا يصح العقاب أو الثواب مع الجبر و الإكراه، وهذا المبدأ العام " لا إكراه في الدين " يمثل الركيزة الأساسية لمنهج دعوة الناس إلى الإسلام، لكن في المقابل فالفرد في المجتمع الإسلامي لا يعتقد أن هذا المبدأ في صلاحه على سبيل الإطلاق فيرخي العنان لنزواته الاعتقادية و العملية، مجابها و متحديا القيم الجماعية التي تنظم عقد النظام الاجتماعي، بالإعلان عن بعض سلوكياته الشاذة سواء لبست لبوسا "دينيا" أو"غير ديني " في مجتمع له خصوصياته الثقافية و الاجتماعية المجمع عليها، فهذا يؤدي إلى حالة افتتان و احتكاك ، لكن و إن كانت القيم الإسلامية تؤكد على وحدة المجتمع وصونه من الاضطراب، إلا أنه يضمن للفرد في حدود دائرته الفردية أن يعتقد ما يشاء ويفعل ما يشاء، وبهذا يصون الإسلام متطلبات المجتمع و متطلبات الفرد بتنظيمه وفق منطق المصلحة و المفسدة، فليس كل من يتمثل في دائرته الخاصة أفكارا أو سلوكيات ما، يعمل على نشرها في الدائرة الجماعية، فلو أن كل فرد من أفراد المجتمع قام ليعلن بشكل منظم عن نزوعاته الفردانية لتحول المجتمع إلى مستنقع للشذوذ و الاستثناءات النفسية و العاطفية و الروحية التي تجعل استمرارية حياة المجتمع في حكم المحال ، فكل إنسان تخطر على ذهنه خواطر لو أفصح عنها لتلقتها العقول بالاستغراب و المواجهة،و إذا ما تحولت هذه الخواطر إلى معتقدات فهو حر في الإيمان و العمل بها دون أن يطلب من الآخرين اعتقاد ما يعتقد و العمل بما يعمل، لأنه في هذه الحالات سيصطدم بقيم المجتمع المجمع عليها .
ومن هنا يتضح أن الفرد لا ينتمي لذاته ليحقق وجوده بل الفرد ينتمي إلى المجتمع لأن الإنسان مدني بالطبع، ولهذا قال الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله:" الفرد ينتمى إلى المجتمع وليس المجتمع هو الذى ينتمى إلى الفرد" و الحديث عن أن الفرد ينتمي إلى المجتمع، فالمقصود الانتماء إلى قيمه و قانونه و عقائده و خصوصياته الثقافية و الاجتماعية، فهو ينحاز و ينتمي لهذه الدائرة المجتمعية ، أما إن طلب الفرد من المجتمع ان ينتمي إليه ، فهذه هي عين الفردانية و تضخم الأنا، إذ يصبح الفرد مشرعا و منظما لسلوك المجتمع، و متمركزا على ذاته حيث يختزل المعاني و الأشياء و يقرأها من خلال ذاته، وهذه عملية تعسفية في القراءة لا تبذل مجهودا لمسح كل الموضوع الذي هو محط الدراسة و القراءة ، و يمكن أن نمثل لذلك بما أقدمت عليه مجموعة من الشباب يسميهم المغاربة "وكالين رمضان" يوم الأحد 13 شتنبر2009، فهؤلاء الأفراد من المجموعة تمركزوا على ذواتهم وأغفلوا الموضوع، فأرادوا إعلان إفطارهم و تكسير سلوك الصيام الثابت لدى المواطنين المغاربة في الشارع العام، جمعوا كل تركيزهم على " الإحساس بالجوع " في نهار شهر الصيام، و عمموا هذه الصورة على كل أيامه، و ألغوا كل ما من شأنه أن يشوش على تركيزهم، و تصوروا أن ليل رمضان كذلك يعيشه المسلم فارغة المعدة، فمن فرط تركيزهم على الأكل و المعدة و تعميم الجوع على كل مواطن مغربي خلال هذا الشهر الفضيل بليله ونهاره، تشرب عقلهم الباطن صورة مأساوية تهضم حق المواطن في الأكل، تبعث على الانتفاض و الاحتجاج، لكن الحقيقة كان عليهم أن يتمركزوا على الموضوع، و هو شهر الصيام و يفهموا معناه و حدوده، و سيخلصون في نهاية المطاف إلى أن معدتهم لن تترك خاوية على عروشها، فالأمر مقصور على نهاره دون ليله، الذي هو متروك لكل الملذات و الشهوات الطيبية ، فيعلموا بهذا أن الإسلام دين وسطي مركب في شرائعه فهو يراعي الفرد و موضوعه، بمنهجية تركيبية خلاقة، فرمضان هو فعل تعبدي غاية في التركيب، و هكذا شأن العبادات في الإسلام ولهم أن يقرأوا كتاب المفكر البوسني عزت بغوفيتش "الإسلام بين الشرق و الغرب" هذا الكتاب العظيم الذي خصص فصلا للحديث عن عبادات الإسلام و منهج التركيب الذي تتمتع به، فليس هناك البعد الواحد في عبادات الإسلام فهي عبادات تستجيب لظاهرة الإنسان المركبة ليحقق في حياته التوزان.
هذا النقاش السابق إن سلمنا أن هذه المجموعة ليست لها مشكلة مع معتقدات الإسلام و على رأسها "الإيمان بالله" أما إذا كا ن فالحديث يكون بمنطق آخر .
أما فيما يتعلق بحالة الإعلان عن إفطارهم في رمضان أمام المواطنين، اعتقدت هذه المجموعة أن الدين هو شأن خاص بالإنسان، وهذا صحيح في بعض جوانبه المتعلقة بالمعتقدات، لكن عندما نتحدث عن الدين بمفهومه الإسلامي، نرى أن الدين يشمل جميع مناحي الحياة، بمعنى أن الاستفزازت الدينية لا تمس فقط المعتقدات بل تمس القيم و النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي يؤطر الحياة الخاصة و الجماعية أيضا، فعبادات الإسلام منها ما هو خفي و منها ما هو ظاهر، و الفضاء الاجتماعي عند المسلمين له أهمية كبرى في الحياة الإسلامية، فمثلا قد يغضب المسلم من بعض الصائمين الذين لا يصلون، و غضبه هذا سليم ، لكن هذا الذي يصوم مع أنه لا يؤتي الصلاة فهو يسهم في إرساء الأجواء الإسلامية على الواقع المجتمعي، فيملأ المساجد و يعمرها، وهذا فيه مصلحة للمجتمع، و نفس الأمر يمكن أن نقوله في مثال الحجاب، قد يغضب بعض المتدينين من حجاب بعض الفتيات اللواتي يأتين أفعالا مشينة، و يكون منطق القول عنده " ما عليك إلا تنزعي حجابك فهو لا يفيدك في شيء ولم ينهك عن أخطائك" و هذا المنطق له وجه من الصحة في علاقتها بربها، أما مع المجتمع فهو في حاجة إلى هذا المظهر لتعزيز قيم الستر و العفة و لو ظاهريا و الله يتولى السرائر، ولذلك بدأت بعض المجلات العلمانية المغربية توقض هذه المقولة القديمة " النفاق الاجتماعي" عند حديثهم عن تمثل الناس للدين و قيمه، فيقولون مثلا " المسلمون يصمون وهم يأتون أفعالا مشينة فماذا نفعهم صياهم عليهم أن يخرجوا من نفاقهم" وهذا القول يستبطن بطريقة غير مباشرة الدعوة إلى التخلي عن الصيام، وإن لم يصرحوا بها، فيفتشون في قلوب الناس و نياتهم لخلق التناقض و الحيرة في صفوف الناس، ليزجوا بهم في لعبة "إما أن نصوم صيام الملائكة أو نكون شياطين" في رمضان، و مقصدهم ليس هو إخراج الناس من النفاق الموهوم بل غايتهم هو إطفاء غضبهم المتصاعد عند مشاهدة الأجواء الإسلامية يسهم فيها الشباب و يصنعها داخل المجتمع، فهم يعلمون أن الفضاء العمومي له أهمية كبرى في صناعة القيم و التوجهات، ولذلك يكثرون من أنشطتهم الإفسادية و التميعية في الفضاء العام لمحاصرة المظاهر الإسلامية.
كما أن هذه المجموعة من " الفطارين" اعتقدت أنها تحدت أحد أركان الإسلام الخمسة فقط، لكن إضافة إلى هذا؛ فالأمر يتجاوز الانتهاك الديني إلى انتهاك الثقافي، فأجواء رمضان و الصيام مند اعتنق المغاربة الإسلام تفاعلوا معه تفاعلا ثقافيا و اجتماعيا، حيث إن المغاربة في بعض المدن لهم طقوسهم الخاصة في استقبال رمضان و في إحياء أجوائه، وهذا البعد الثقافي يخترق اللباس و الأكل و اللغة و العلاقات الاجتماعية ..، فأمر الصيام إذن، ليس ذا بعد واحد ديني، بل أبعاده متعددة تشمل الفرد و الجماعة، وعليه فإن إقدام أي فرد أو جماعة منظمة على الإخلال بالنظام الثقافي عن طريق الإعلان عن إفطار جماعي في نهار رمضان، هو استفزاز لثقافة المغاربة المواكبة لشهر الصيام و القيام، و التي ترسخت لقرون عديدة حتى أصبحت من التراث الديني الثقافي، و لما يمس المجتمع بهكذا سلوك سينتفض انتفاضة قد تؤدي إلى اشتبكات دموية لأن دوافعه اختلطت بما ديني و ثقافي .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: