-
لغز مصير حكومة الذهبي وآليات إدارة الدولة
الاردن شعبا وحكومة بحاجة الى النظر في المرأة لرؤية الواقع كما هو من دون مساحيق التجميل التي غطت الصورة خلال السنوات الماضية.النخب السياسية المتناكفة، سيما رجالات الدولة السابقون، ينشغلون بشغف وللمرة المليون بـ "حدّوتة" بقاء أو رحيل حكومة الباشا نادر الذهبي، بينما تحتدم حرب "داحس والغبراء" بين أعضاء فريقه الاقتصادي في مجلس فقد بوصلته وتجانسه، قبل أن يكمل عامه الثاني في الدوار الرابع الشهر المقبل.هذه النخب تحاول فك لغز الالغاز القديم/الجديد؛ من سيكون رئيس الحكومة المقبل؟ يغيب عن بال غالبيتهم أن التغيير المرتقب لن يغير شيئا مهما كانت شخصية الرجل الذي سيشكل الحكومة، طالما بقيت معايير الاختيار وآلية التعيين من دون تغيير، وما لم يتخذ رأس الدولة قرار الشروع في إصلاحات سياسية تدريجية لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية.المطلوب إصلاحات حقيقية تبدأ بتغيير قانون الانتخاب الحالي تتبعها آلية تشكيل حكومات تعتمد على اسناد الكتل البرلمانية الكبيرة وتحاسب أمام الأقلية المعارضة وسلطة رابعة نزيهة.من الأفضل بعد اليوم إعطاء أي رئيس مكلف مطلق الحرية في اختيار اعضاء فريقه الوزاري، أقلّه فيما يتعلق بالشق الاقتصادي والسياسة الداخلية (مع الأخذ بالاعتبار ضرورة أن يكون وزير الخارجية مقبولا لدى القصر). بعد أن ينتقي أعضاء حكومته على أسس الكفاءة والنزاهة، ينشد رئيس الوزراء مباركة الملك عبد الله الثاني. وقد يستأنس برأي دائرة المخابرات العامة لدراسة ملفات المرشحين الشخصية، من أجل ضمان أسماء بعيدة عن الشبهات.بخلاف ذلك لن يستطيع أي رئيس أن يتحمل مسؤوليته الدستورية الكاملة. وستتواصل عملية تشتيت المرجعيات والاختباء وراء الملك، كما ستتكرر مقولة أن الوزير الإشكالي الفلاني هبط بأوامر من "فوق" أو من خلال تنسيبات "الدائرة"، ما يشتّت جهد محاسبة الرئيس، بموجب الولاية الدستورية.يتساءل أصحاب صالونات الشغب السياسي فيما إذا سيكلف الملك شخصية جديدة لتشكيل حكومة أم سيوافق للذهبي على تعديل يضبط من خلاله إيقاع فريقه المتناحر. فالشرخ بين أعضاء هذا الفريق لم يعد مخفيا. إذ يتندر العمانيون بقصّة سرت أخيرا حول قيام أحد الوزراء بشتم وتحقير زميلة له في غيابها خلال إحدى السهرات.التعديل، المعلق منذ أشهر، قد يعطي الرئيس أوكسجينا لعدة أشهر أخرى ريثما تنجلي الغيوم السياسية الإقليمية التي قد تتطلب تعديلا على استراتيجيات الدولة أو تغيير التكتيك السياسي.وقد يطلب من الرئيس الذهبي إعادة تشكيل حكومة جديدة، وهو الذي أجرى أول تعديل شكلي على طاقمه في الربيع الماضي.بصرف النظر عن هوية ساكن الدوار الرابع الجديد، عليه التعامل مع الأزمة الاقتصادية الداخلية المستفحلة والبحث عن مساعدات آخذة بالانحسار، بإستثناء الدعم الأمريكي الذي تخطى نصف المليار دولار هذا العام. ويرى دبلوماسيون أن تراجع المساعدات العربية يعود إلى طريقة إدارة الهبات وصرفها في أوجه انفاق إشكالية، معطوفا على ذلك التراجع المستمر والمقلق لهيبة الدولة و"خازوق" الاستحقاقات السياسية، الذي يطل برأسه يوما بعد يوم، وفي البال نجاح إسرائيل حتى الآن في لي ذراع الرئيس الأمريكي المتحمس باراك اوباما وإحباط التزامه الشخصي في حل الصراع العربي-الاسرائيلي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فالأردن يشعر بخيبة الأمل حيال تراجع فرص إقامة دولة متواصلة جغرافيا قابلة للنمو والحياة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام ،1967 وهو يواصل الجهاد سياسيا في سبيل ذلك لأنه يعتبره ضرورة لضمان أمنه واستقراره.واشنطن، بحسب ساسة ودبلوماسيين، ما تزال عاجزة عن تلبية الحد الأدنى لمطالب الجانب الفلسطيني وسائر العرب لاستئناف المفاوضات، يطالب العرب بتحديد مرجعيات عملية السلام، وقف سرطان الاستيطان الذي ما أنفك يقضم أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية تمهيدا لفرض سياسة الأمر الواقع وترحيل الحقوق السياسية والتاريخية للشعب الفلسطيني إلى أماكن أخرى من العالم، كما يحذرون من أن أوباما المحاصر بجبال من التحديات الداخلية والخارجية قد ينسحب من جهد السلام الشرق أوسطي بحيث يعود الفرقاء إلى مربع إدارة عملية السلام وتخفيض حدّة التوتر لسنوات أخرى بينما تتفاقم الأزمة وصولا إلى الانفجار.صورة المشهد الداخلي مقلقة. خيبة الأمل والتوجس ينتظمان غالبية المناسبات الاجتماعية وجلسات العزاء في مختلف المدن، البوادي والمخيمات. النقد والتجريح يطال شخصيات ومراكز قوى لطالما كانت خطا أحمر في ثقافتنا وعاداتنا وأدبيات حديثنا في العلن.رجل الشارع محبط، وهو مسكون بهم تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش، وتتواتر أعتصامات وأحداث شغب في أماكن أخرى من الوطن لتعكس أزمة في السياسات العامة، وفي إدارة شؤون البلاد والعباد؛ بينما تتداخل حدود وصلاحيات مؤسسات الدولة وأجهزتها بعد أن تحول منصب رئيس الوزراء في السنوات الماضية من سياسي-تنفيذي-حيوي إلى كبير موظفين وتحوّل دور الوزير إلى موظف حكومي مطواع فاقد للمبادرة تجنبا للعقاب.في الأثناء تتكرر انحرافات مواطنين صوب أخذ القانون بيدهم بسبب الترهل في تنفيذ القانون والالتزام بروحه. مواطنون يعتدون على الممتلكات العامة وعلى رموز الدولة السيادية بدافع الانتقام بعد أن خذلتهم ممارسات من يجلسون في مقاعد السلطة. الناس باتت تتحرك هذه الأيام لأسباب سياسية تتعلق بغياب المساواة في الحقوق والواجبات المدنية واستمرار هدر المال العام والواسطة والمحسوبية والفساد الإداري والمالي.خلال الأيام الماضية اعتصم أبناء عجلون احتجاجا على تأخر انجاز مشروع تطوير مسجدهم الكبير. وسجل إطلاق نار صوب كوخ شرطة في الطفيلة كما أضرمت به النيران، فيما تواصلت الاحتجاجات في معان على ما يصفه السكان المحليون بتجاهل السياسات الرسمية للمدينة وسكانها. قبل ذلك اشتعل مسلسل المواجهات الدامية بين بعض أبناء عشائر في شمال، جنوب، شرق وغرب المملكة أفضت الى تكسير ممتلكات عامة وإغلاق طرق. تلك المواجهات انتهت بجلوات وعطوات بعد تدخل قوات الدرك بقوة لبسط الامن.بقايا الطبقة الوسطى من المهنيين والمثقفين - أدوات تقدم المجتمع - تقف حائرة بين ما تسمع من وعود تنشد الإصلاح والعصرنة الشاملة بما يطلق الإبداع الحقيقي، وما تراه وتعايشه على أرض الواقع من تجارب صعبة ومحبطة. وفي الخلفية تنامي الحقد الطبقي واغتيال ما تبقّى من النجاح والتميز والابداع الشخصي في مجتمع لم يتعود على تحمل الرأي الاخر او مناقشته.العشرات من رجال وسيدات عالم المال والاقتصاد قلقون على مستقبل منشآتهم في بلد أثبت انه غير قادر حتى اليوم على "فطم" سياسات العطايا لفئات معينة وتوجيه الدعم الحكومي لحماية الأسر العفيفة الآخذة بالتناسل. ويفاقم الوضع غياب ثقافة قائمة على ترشيد الاستهلاك والعيش ضمن الامكانات المادية المتاحة للافراد. غالبية هؤلاء تشتكي من أن أعمالهم ما زالت مكبلة بالبيروقراطية المتجذرة وبتعليمات غير واضحة تتغير بين ليلة وضحاها كلما واجه مسؤول مشكلة ما. ما تزال الحساسيات السياسية تتحكم بالاقتصاد بدلا من عوامل السوق. البعض يخشى من عودة صامتة للحكومة ولمؤسساتها المدنية والعسكرية كطرف منافس لأعمالهم لضبط الأسعار والهروب من فشلها في تنظيم الأسواق عبر قوانين وهيئات متخصصة تضبط وتنظم عمل السوق القائم على العرض والطلب، فنار الأسعار باتت تلسع الأمن الغذائي للمواطن.وبات واضحا أن السوق تتجه إلى توليفة "هجينة" تسعى الحكومة لتفصيلها هربا من فلتان الأسعار، بما يضع حدا للعمل على تحرير الاقتصاد منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وفتح السوق أمام المنافسة الحرة وتعزيز دور القطاع الخاص في توليد فرص عمل. إعلان الحكومة يوم الخميس عن تأسيس شركة حكومية لاستيراد المواد الغذائية لتحقيق الأمن الغذائي، آخر دليل على التخبط الاقتصادي للدولة التي باتت تبحث عن اجتراح نظام خاص بها بعد أن سمحت بربط مصير الاقتصاد "بذيل الخاروف البلدي" لضمان الأمن الاجتماعي والسياسي، في دولة غير قادرة على توزيع مكاسب التنمية على مكونات المجتمع كافة.بصراحة، الأردن شعبا وحكومة بحاجة إلى النظر هذه المرة في المرآة لرؤية الواقع كما هو من دون مساحيق التجميل التي غطت الصورة خلال السنوات الماضية.اذا لم نقتنع بحلو ومر واقعنا لن نتقبّل العلاج المطلوب بالكي أو الجراحة. وسنستمر في تجميل المظهر الخارجي دون الالتفات الى الجوهر. وستسيطر روح العصبية ويرفع كل مكون إجتماعي علما خاصا به.مَنْ يجلس في الدوار الرابع وفي الوزارات وداخل مراكز القوى الأخرى لم يعد يعني الكثير لغالبية الأردنيين- باستثناء النخبة السياسية التي ترتبط مصالحها ونفوذها بمن يمارس السلطة ويمسك بأدواتها. ولم يعد للعبة تغيير كرسي الرئاسة وشخوص التنفيذيين أي مضمون. خلال العشر سنوات الماضية جرّب سبعة رؤساء وزارات، يمثلون ألوان الطيف السياسي. غالبيتهم أعطي فرصة المئة يوم قبل أن يتعرض وفريقه للتدخل والتعطيل. الخلل الحاصل الآن يتطلب تجديد سياسات وأدوات ممارسة السلطة، وتعريف ما هية المواطنة في عصر دولة القانون بهدف إستعادة هيبة الدولة بدلا من الاستمرار في لعبة تجميل الشكل على حساب المضمون. المطلوب رؤية واضحة بعيدة المدى وليس فقط من باب التبجح أو المباهاة أمام الآخرين، بمن فيهم أعضاء السلك الدبلوماسي وزوار الاردن الذين يرصدن الخلل أيضا. الإصلاح السياسي يظل مفتاح الإنقاذ وطوق النجاة لوطننا الذي لا نتفيأ ظلاله ونأبى مفارقته.
0 التعليقات: