-
الطفل والدين
ينشأ الإنسان في بيئته الأسرية و المجتمعية فيتلقى العادات و الأفكار و المعتقدات و الثقافات عبر مراحل عمره النمائية من الطفولة إلى الرشد، و يشكل الآباء موقعا مركزيا في التنشئة التربوية و الاجتماعية داخل الأسرة، و كلما بعد الفرد عن دائرة الأسرة تشرع دوائر أخرى في احتضانه ورعايته على قيم أخرى قد تكون مصادمة لقيمه الأسرية الأولى، و يشتد الصدام إذا ما تعلق الأمر بالقيم و المعتقدات الدينية سواء الانتقال من دين إلى دين، كانتقال شخص ما من المسيحية إلى الإسلام ، أو الارتداد عن الدين الأم كردة شخص عن الإسلام أو المسيحية و اعتناقه الإلحاد ، وهذه التحولات العقدية للإنسان قد تكون ناتجة عن مخالطة " الأقران" أو بتأثير من وسائل الإعلام ، فيراجع الفرد بعض معتقداته الدينية التي تلقاها عن أبويه سواء بالمشاهدة أو التلقين، و قد يكون في حاجة لإجابات عن أسئلة دينية اعتقادية تقض مضجع عقله يتخوف من الإعلان عنها و مناقشتها مع أبويه أو أصدقائه..
هذه الفكرة عنت لي بعد انتهائي من قراءة كتاب" حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا" للدكتور جفري لانغ أستاذ الرياضيات الأمريكي الذي أسلم و حكى قصة إسلامه في كتاب" الصراع من أجل الإيمان" نشر عام 1996، و كتاب حتى الملائكة تسأل مليء بالإشكالات و القضايا الساخنة، فهو يستعرض لنوعية الأسئلة التي كان يطرحها جفري عندما كان ملحدا و كيف استطاع أن يجد لها جوابا عند إسلامه، كما أنه يقدم بعد إسلامه رؤية إسلامية اجتهادية في كثير من القضايا التي تطرحها الجالية الإسلامية في أمريكا و الغرب، فالكتاب يطرح إشكالية كبرى تتمثل في مقتضيات الدين الإسلامي وكيفية تنزيلها في واقع غربي له ثقافته و منطقه في التفكير، إنها إشكالية "الدين و الثقافة"، ويقدم جفري مثالا بسيطا لكنه له دلالة عميقة تتعلق بتغيير الاسم عند المسلمين الجدد، وهو لا يرى ذلك و ليس واجبا، و تغيير الاسم يكون عندما يحمل الاسم معنى مسيئا، و لذلك لم يغير جفري اسمه ..
في زمن قراءة الكتاب أحسست بتعاطف غريب مع معاناة الإنسان الملحد المتسائل عن الوجود و الله و المصير و الآخرة ، ومبعث هذا التعاطف نابع من أسلوب "جفري لانغ" في الكتابة الحكائية عن موضوع المعتقدات الشائك، و أنت تقرأ يريد منك الكاتب أن تتقمص شخصيته و كأنك أنت من تكتب، ولست قارئا البتة، و توفق جفري معي، إذ وجدني قارئا منفتحا لا يخاف من الأفكار المخالفة، فعشت لحظات الكتاب " عشت الإلحاد و الشكوك و الإيمان و الإسلام" وفي لحظات ينتزع مني الدهشة، الابتسامة، القهقهة، الدمعة، الحزن، الفرح، التساؤل، باختصار جعلني أعيش رحلة مليئة بالأسئلة الوجودية..
إن الكتاب يحمل بين الطياته الكثير من القضايا و الأسئلة المستفزة لعقل المسلم المعاصر، لكن ما أثارني و جعلني أكتب هذه السطور، هو عند إفصاح جفري عن السبب الذي دعاه لكتابة كتاب " حتى الملائكة تسأل " يقول :" كتبت هذا الكتاب..لأولادي، آملا أن يعينهم صراعي في البحث عن معنى الحياة..إني أكره أن أرى بحث أولادي منتهيا من حيث انتهيت، بل إن أملي الكبير هو أن يبدؤوا من حيث أنتهي" ، و جفري بعمله هذا، لا يريد أن يعيد تجربة أبيه مع أبنائه، و يحكي أيضا أنه سأل أباه مرة وهو طفل صغير:" هل تؤمن بالسماء و الجنة يا أبتي؟" يقول جفري على لسان أبيه:" أستطيع أن أومن بالجحيم بسهولة لأن على الأرض أماكن كثيرة كالجحيم، وأما الجنة.." توقف لبضع ثوان ثم هز رأسه وقال:"...أما الجنة، فلا استطيع تصورها"، وعلى منوال هذه الأسئلة يسأل أبناء جفري أباهم بقولهم:" لماذا أسلمت ؟"، و لذلك فجفري يبذل مجهودا كبيرا من خلال حكي قصة إيمانه في كتابه الأول" الصراع من أجل الإيمان" و كتابه الثاني" حتى الملائكة تسأل" لأجل بيان حقيقة الإسلام وكيف للمسلم المعاصر أن يحيا مؤمنا بالله و بالإسلام في الغرب، لأنه يتألم عند سماعه ردة بعض المسلمين الجدد الذين فشلوا في الحياة بالإسلام ببلدانهم الأصلية، فجفري لانغ لا يريد ان يصدم بردة أبنائه عند مراهقته و رشدهم..، فهذه العلاقة بين الأب و الأبناء - و بالرغم من الإشكالات الأكاديمية التي يناقشها- ركزت عليها طيلة القراءة حتى لا أتيه في التفاصيل الكثيرة و المثيرة
إن الأطفال يسألون أسئلة لا تخطر على بال آبائهم، وقد تكون اعتقادية كأن يقولوا:"أين الله ؟" أو" من أين اتيت؟" وكما يقال:" أي طفل يسأل سؤالا فهو مستعد لقبول الإجابة"، لكن الآباء إما لجهلهم أو لخوفهم يتحايلون على إجابات أطفالهم ظنا منهم أن التملص من الإجابة سيطفئ السؤال، لكن هذا الأخير يبقى مصاحبا للإنسان إلى نهاية حياته، فلبعد نظر جفري لانغ ألف كتابين ظاهرهما أنهما يناقشان قضايا أكاديمية لكن باطنهما رعاية و احتراما لعقول أطفاله الذين يوما سيكبرون و يلدون أطفالا يسألونهم..
أعتقد أن مسألة الطفولة والقضايا الاعتقادية من أعقد المسائل، لأن الطفولة هي أدق مرحلة نمائية عند الإنسان، و الطفل له طرائقه في اكتساب المعرفة، كما بينها عالم النفس السويسري جان بياجيه" 1896 ـ 1980"، وليس من السهولة أن يتقلد شخص مسؤولية التربية الدينية للأطفال، وقد أجازف وأقول ليس لدينا في العالم العربي أطرا متخصصة في التربية الدينية للأطفال، ولذلك طبيعي أن تكون قصار السور من حزب الستين أول محفوظاتنا كما يقول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه أزمة الإرادة والوجدان المسلم، هذه السور المليئة بمشاهد يوم القيامة من نار و عذاب مع العلم أن الطفل لم يبلغ السن التكليف !..
إن ثروة الأمم في طفولتها ، و الطفولة أعز ما هي في حاجة إليه في الوقت المعاصر بناء روحها و وجدانها انطلاقا من القيم الدينية السامية، ولأجل أن يتحقق ذلك، على شعبنا الإسلامية ان تستيقظ من نومها وتطلق مشاريع البحث العلمي في كيفية تربية الأطفال على القيم الدينية، كما أن مراكز تكوين الأساتذة و المعلمين ينبغي أن يولوا عناية بالغة الأهمية لهذا الموضوع ، وللأسف كان في ما سبق، نظرا لتخلف مناهجنا التعليمية في التربية الإسلامية، كان الطفل في الإعدادي يدرس زكاة الأنعام و الذهب وهو في أمس الحاجة لبناء روحه و الغريب يدرس ذلك وهو لا يملك قوت يومه !..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: