إعلان

  • سيتكومات بليدة

    عرفت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأسبوع ما قبل الماضي سجالا حادا بسبب رفض عدد من الأمريكيين فكرة إلقاء الرئيس باراك أوباما خطابا موجها إلى التلاميذ بمناسبة الدخول المدرسي الجديد، بذريعة أن أوباما يريد استغلال الأطفال بإقحامهم في السياسة. ورغم أن الحزب الجمهوري هو الذي قاد حملة الوقوف ضد خطاب أوباما الموجه إلى أطفال أمريكا، وهذا يدخل في إطار الصراع الأبدي بين الجمهوريين والديمقراطيين، فالذي يهم في نهاية المطاف هو أن الأطفال في بلاد العم سام، وفي البلدان المتقدمة عموما، لديهم من يدافع عنهم ويحمي عقولهم الصغيرة من غزو أفكار قد لا تلائمها، ويحول بينهم وبين استغلالهم وشحنهم من طرف أي جهة كانت، بمن في ذلك رئيس الدولة بنفسه، وما أحوجنا اليوم في المغرب إلى من يحمي الأطفال من السخافات التي يبثها التلفزيون العمومي هذه الأيام متمثلة في السيتكومات الرمضانية.
    إحدى السيدات الأمريكيات اتصلت بأحد البرامج التلفزيونية وقالت محتجة: "ليس من حق أوباما أن يقحم أطفالنا في السياسة، وإذا أراد أن يرفع من شعبيته فعليه أن يبحث عن طريقة أخرى بعيدا عن استغلال عقول أطفالنا الصغار".
    هذه الجملة البليغة يجدر بالآباء والأمهات المغاربة أن يتأمّلوها ويرددوها في أنفسهم مع أذان مغرب كل يوم خلال هذا الشهر الكريم وهم يرون أطفالهم الصغار يبتلعون ما لذّ وطاب من الطعام على مائدة الافطار و "يبتلعون" معه "الأفكار" السخيفة التي يسمعونها من أفواه ممثلي السيتكومات طيلة أيام شهر رمضان الكريم.
    وإذا كان جميع المغاربة ينتقدون هذه السيتكومات وينتقدون مضمونها الفارغ ويهربون إلى الفضائيات العربية لمشاهدة أعمال درامية تحترم ذكاءهم وعقولهم، فإن الجمهور الناشيء المتشكل من الأطفال الصغار والمراهقين يظل وفيا لمتابعة ما يقدمه الناصري والخياري وفهيد من تفاهات، في ظل غياب دور كثير من الآباء والأمهات في تأطير أطفالهم وتوجيههم لمشاهدة ما هو مفيد.
    السبب الوجيه الذي يفرض على هؤلاء الآباء حماية أطفالهم من مشاهدة تفاهات الأعمال التلفزيونية الرمضانية ليس مردّه أن هذه الأعمال لا تعود بأي نفع معرفي على من يشاهدها، بل لأنها تساهم، إضافة إلى هذا السبب، في زرع "أفكار" مغلوطة في عقل المتلقي، وتحمل إليه "قيما" بعيدة عن قيم المجتمع الذي يعيش فيه، وترسّخ في ذهنه طقوسا بائدة عفا عنها الزمن، خصوصا إذا كان هذا المتلقي/المشاهد، لم يصل بعد إلى مرحلة النضج الفكري حتى يستطيع التمييز بين الأشياء، كما هو الحال بالنسبة للأطفال الصغار.
    ولعل من يتابع السيتكومات الرمضانية سيكتشف أنها لا تعالج موضوعا ولا قضية، وسيكتشف أن أسوأ ما فيها، إضافة إلى محتواها الفارغ، هو أنها تعيد إحياء أفكار بالية لم يعد لها وجود إلا داخل مخيلة "كتبة" سيناريوهات هذه السيتكومات.
    هكذا، ما تزال شخصية "الشلح" و "العروبي"، عرضة للسخرية والاستهزاء بسبب اللكنة التي تنطق بها هذه الشخصية دارجة محور الدار البيضاء والرباط، والحال أن هذه اللكنة لم تعد طاغية على ألسنة "العروبي" القادم في الأغلب الأعم من دكالة، و"الشلح" القادم من منطقة سوس، ويكفي القيام بزيارة إلى الأماكن التي تشتغل فيها "الجالية" السوسية مثلا، في الدار البيضاء والرباط لكي يلاحظ المرء ألاّ فرق بين اللسان البيضاوي والرباطي "الأصيل"، وألسنة المغاربة المهاجرين إلى البيضاء والرباط من مختلف مناطق المغرب، خصوصا الجيل الثاني والثالث. وحتى إذا ما كان هناك فرق فليس بالحدّة التي يحاول ممثلو السيتكومات أن يقدموه بها، فنحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، الذي اختلط فيه الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، واختلط العرب والأمازيغ وتزاوجوا وتصاهروا، وهؤلاء الممثلون يعيشون بعقليات توقفت محركات تطورها عند سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، يوم كان السوسي لا يتجاوز حدود السوق الأسبوعي لقريته المنعزلة في جبال الأطلس الصغير.
    ويا ليت الأمر يتوقف عند حدّ السخرية من لكنة الغير منتمين إلى محور الدار البيضاء/الرباط لهان الأمر، الكارثة أن هذه السيتكومات تزرع في عقول الأطفال الصغار "أفكارا" ومعتقدات وطقوسا بالية لم يعد لها وجود إلا في المجتمعات الغارقة في مستنقعات الجهل والتخلف. ففي إحدى حلقات الأسبوع الماضي من سلسة "دار الورثة"، رأينا مشهدا لابد أن كل الأطفال الذين شاهدوه ستترسخ في أذهانهم الصغيرة تلك المعتقدات التي تقول بأن استخراج الكنوز يحتاج إلى تلك الطقوس التي يحضر فيها البخور و"التعزيم" وكل تلك الخرافات الأخرى، وهم يشاهدون الممثلين في السلسة يقومون بحفر "الكنز" داخل بيتهم، وفي إحدى الغرف كان اثنان آخران يقومان بـ"التعزيم" على إيقاع الأبخرة المكثفة المتصاعدة من المبخرة. الأطفال الذين يرون مثل هذه المشاهد ستظل صورة الأبخرة وأصوات "المعزمين" مترسخة في أذهانهم إلى الأبد، ومن تم سيعتقدون بأن استخراج الكنوز لابد أن يتم بتلك الطقوس البالية، ولن يصدقوا أبدا أن علماء الآثار يستخرجونها دونما حاجة إلى ذلك، فالمعلومات التي يتلقاها الأطفال في الصغر هي كما النقش في الحجر لا ينمحي.
    وما يزيد من خطورة الأمر هو أن أطفالنا لا يجدون في الغالب من يجيب عن أسئلتهم عندما يطلبون توضيحات حول ما يرونه على الشاشة، في ظل غياب التأطير الأسري بسبب مشاغل الآباء والأمهات ولا مبالاتهم في أحيان كثيرة، وحتى إذا أجابوا فكثير منهم هم بأنفسهم يؤمنون بمثل هذه الخرافات، وقد يزكّون ما يشاهدونه على الشاشة ليزداد رسوخا على رسوخ في عقلية الأطفال.
    وإذا كان هذا هو حال الأسرة، فالمدرسة ليست أحسن حالا، وبالتالي تبقى أذهان الأطفال قابلة لتصديق هذه الخرافات ما داموا لا يتوفرون على مناعة تحمي عقولهم الصغيرة من تسلل هذه "الأفكار" المغلوطة التي يحملها إليهم التلفزيون، والذي يعتبر أقوى وأخطر وسيلة للتأثير على عقل المتلقي، خصوصا في بيئة فارغة من الناحية الثقافية والتأطيرية كالبيئة المغربية.
    إضافة إلى ذلك، تقوم السيتكومات التي تقدم على التلفزيون العمومي خلال شهر رمضان بتقديم الشخصية المغربية في صورة كاريكاتورية سخيفة لم يعد لها وجود، ولا تختلف عن الصورة التي كان يرسمها عنا المستعمر الفرنسي والاسباني في بداية القرن الماضي.
    الشخصية المغربية في هذه السيتكومات شخصية تافهة هشّة جاهلة تبكي بلا سبب، وترتعد فرائصها أثناء التحدث إلى شخصية أخرى تفوقها مرتبة اجتماعية، وتعاني من بلادة مفرطة.
    في إحدى حلقات سلسة "دار الورثة" دائما، والتي نتخذها كمثال نظرا لقربها من المعيش المغربي العادي، نجد الشاب "هشام"، (يلعب دوره عبد الصمد مفتاح الخير) يرتدي سروال دجينز، ويطلي شعره بـ"جيل"، ويعزف على العود والقيثارة، أي أنه شاب متمدن ومتعلم و"عصري"، لكن شخصيته هشة للغاية، عندما جاء المخاض زوجته (هاجر عدنان) عوض أن يكون "رجلا"، ويحملها إلى المستشفى، ويقف بجانبها إلى أن تنجب، عوض ذلك ظهر محتارا لا يدري ما يفعل، زوجته تتوجع من آلام المخاض وهو جالس إلى جانبها يستجدي والده الطاعن في السن (عبد الجبار لوزير) أن يفعل شيئا بصوت أقرب إلى البكاء. مثل هذه المشاهد تكرس أكبر صفة سلبية في عقل الأطفال الذين يشاهدونها، وهي صفة التواكل. في الوقت الذي يرى فيه هؤلاء الأطفال نظراءهم في البلدان المتقدمة ينافسون الرجال ويقومون بأعمال خارقة.
    في نفس السلسلة "دار الورثة"، يظهر نفس الشاب المتمدن العصري المتعلم الذي يتقن العزف على القيثارة والعود في درجة قصوى من البلادة عندما رغب في قضاء شهر العسل رفقة عروسه في إسبانيا، حيث لم يتجاوز المبلغ الذي طلبه من والده- مرة أخرى- مليون سنتيم. الطامة الكبرى أن العروسة، كانت ترطن بكلمات فرنسية، أي أنها متعلمة أكثر، ومع ذلك لم يتساءل أحدهما إن كان مبلغ مليون سنتيم كافيا لقضاء شهر كامل في إسبانيا، وهو المبلغ الذي يمكن لأي شاب مغربي، حتى ولم لم يسبق له أن دخل المدرسة، أن يقول لك بأنه بالكاد يكفي لإيصال شخصين على متن الطائرة إلى مطار مدريد باراخاس!
    صحيح أن السيتكومات ليست سوى لوحات كاريكاتورية ساخرة، لكن، أن يتم رسم الشخصية المغربية بهذه الصورة الغارقة في البلادة والتخلف ، فهذا لا يدخل في باب إضحاك الناس، بل يدخل في باب الضحك على ذقون الناس واستبلاد عقولهم، خصوصا عقول الأطفال الصغار.

    محمد الراجي
    Lesoir2006@gmail.com

0 التعليقات:

إضافة تعليق

رشحنا في دليل سفنتي للمواقع العربية

اعلان

صوت وصورة

الخروج من فم الثعبان