-
يا زملاءُ أحبطْتُكم
وأنا أتحدث من هنا، من ذات المنبر الذي وقفتم أنتم عليه، وليس من برج عاجيّ كما يروّج الواهمون، تمنيتُ مرارا بيني وبين نفسي لو يتوقف هذا القذفُ وإنه من أسمائي. تمنيتُ لو نفهم جميعا أننا نستحق أن نتعايش دون أن يصطدم أحدُنا بالآخر حدّ القتل، نتقاسم هذه الأرضَ الموحّدة افتراضا باحترام ساطع ولو توارى الحب. سأسمي الأشياء لا الكراسيَ بأسمائها كي لا ينهض المزايدون ثانيةً ويستغلوا فوضى الجدل فيضيع صنيعي وسط الصخب والغبار.
اليوم، لا أخاطبُ الذين يتركون بحبّ أثرا لانطباعاتٍ أفهمها أو يمرون بي ويكتمون مشاعرَ أعرفها، أولئك ـ وإنْ بعضُهم أخطأ التأويل ـ لهم مني أبداً حبّ وتقدير. ولستُ أخاطب الذين ينتقدونني بدبلوماسية أو ـ على الأقل ـ يحتفظون بانتقاداتهم في صدورهم وينصرفون، أولئك أيضا لهم مني نفسُ الحب ونفس التقدير. ولا أخاطبُ زملاءً يتسابقون نكايةً بي إلى توقيع رسائل تزلّفٍ فاقعٍ ذلُّها يبعثون بها إلى الأعداء لتسْلمَ عروشُهم، أولئك لهم مني نصفُ تقدير. بل إني أوجه خطابي إلى فئة منكم تعرفونها، إلى زملاءٍ معدودين على رؤوس الأصابع، أولئك الذين يخلطون الضجيج بالكذب، وبماء السخرية مني يعجنون رغيفا يوميا يتلهى به البسطاء. وأعدُكم ـ يا أصدقائي ـ بأني بعد هذا الخطاب لن ألتفتَ إليهم، وسأتعالى عن حروبهم السخيفة وأمضي في ما تبقى من طريق العمر أماماً، ولن يهمني العواءُ القادمُ من الخلف.
يا زملاءً يعرفون تماما أني أعنيهم تحديداً؛ قد أستحق منكم نقدا قاسيا وسخرية فجّة وهجوما مؤذيا على كلماتي ومواقفي في مكان آخر وفي مشاهدات أخرى. لكن، في هذا المكان الذي تطلعّتْ وتتطلعُ إليه الجماهير، اسمحوا لي لا عزاءَ لكم. لقد أتيتُ هنا بشيء لم يسبقني إليه أحد غيري. وأتحداكم أن تتمعنوا في كلماتي فلا يصيبكم خجلٌ من كلماتكم. لقد كانت الجماهير تعتقد إلى حينٍ أننا متشابهون، لكني هنا كنتُ غيرَكم تماما، وأثبتُّ أني المتفرد العميد الحكيم العزيز... ولن ينازعني في هذه العزة بشر منكم. هيا، اعتبروا الأمر جنونَ عظمةٍ وتضخُّم أنا مريضة كما ظللتم تلوكون. فقد يصدقّكم بعضُهم زمنا، لكن ليس إلى الأبد.
إني رأيتكم ـ يا زملاءُ ـ من منبري ترتعدون. كنتم ـ وأنا أتكلم ـ تنظرون إلى الفراغ بعيون زائغة يكاد يخنقكم البكاء. كانت كلماتي مرعبةً وصادمةً كشفتْ هشاشتَكم وفضحتْ ضعفَكم. وكلما زاد جبنُكم الفاضحُ ازددتُ جرأةً أخجلَتْكم وأذهلتِ الخصوم. لا يهمني أن تباركوا انتصاري هنا، فحتى إن لم تعترفوا بالعار الذي عَلِق بأذيالكم، فالأذكياء يدركون كم أنتم محبطون، لأنكم لم تتخيلوني سأمتلك كل هذه الشجاعةِ كي أقول أمام الملايين ما يحس به الملايين. وفي وجه الطغاة والجبابرة لم تتوقعوا أن أُعبّئَ كلمتي الجريئة بكل ما كان سماعُه أكثر من مجردِ حلمٍ راود جماهيرَنا طيلة سنواتٍ انتصرتْ فيها الهزائم وضجَّ فيها الصمتُ والخوفُ. لقد رويتُ هنا عطشَ كلّ الشعوب التواقة إلى لحظة كبرياء، إذ حملتُ طيّ خطابي العنيف قلقَ البسطاء وغضبَ الفقراء وآمالَ المحرومين. وها أنتم من شدة الحسد والغيرة تحملون أحقادكم وتتعقّبون سقطاتي لتصرفوا انتباه الجماهير عن الفتح العظيم الذي صنعته هنا. تُذكّرون القادمين بما خطّتْ يدي ماضياً من حماقات ـ كما سمّيتموها ـ لأنكم تريدونهم ألا ينظروا إلى الحكمة التي تفوّهتُ بها هنا ويظلوا عنكم غافلين. لا تريدونهم أن يكتشفوا فيّ البطل الذي ظلوا به يحلمون، لأنكم تخافون أن أسرق النار من بين أيديكم بأيديهم، فتستويَ على رأسي تاجا من ضوء. يا لأمتي! أمتي التي تترقّب في شوقٍ قاتلٍ طيلة حياتها بطلاً لو يجيء، وحين يأتي فجرا تحاصره السيوف.
فشوّشوا عليّ واشتموني. جنِّدوا الأقلام النبّاشة لتحرضَ الجماهيرَ على السخرية مني فأبدو أضحوكة. واستنجدوا بما سجّلتُه في تاريخي الشخصيّ كي تُسفّهوا ما سجلتُه في تاريخ الأمم. قولوا للناس ثانيةً إني مهرجٌ وانتهازيٌّ وصانعُ فقاعاتٍ سوداء في كتابٍ أخضر. قولوا إني مجرد مغرورٍ ومبذّر يتباهى بشقّ أنهارٍ من غبار تجري من تحت الغبار. واصلوا تدمير أعمدة النور التي زرعتها هنا. ما عاد يهمني، فالتاريخ ـ رغماً عن كبريائكم المريض ـ سيُخبر أبناءنا وأحفادنا بأني مررتُ من هنا، من هنا كما مررتم، لكني كنتُ الأشجعَ فيكم إذ كنتمُ الجبناء، وأسمعتُ الأممَ ـ في تحدٍّ نادرٍ ـ صرخاتِ الأمة. ستستعيد الأجيال القادمة بفخر ما تركته وحدي هنا، وما تبقى مني ومنكم من تفاهاتٍ هناك أو هناك سينتهي بنهايتي ونهايتكم، وأجلَ الله قريب.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: