-
كم بيننا وبين التحضر والحضارة؟
كانت إسبانيا إلى حدود 1974 دولة في طريق النمو، وتنعدم فيها الديموقراطية، لكن الإسبان كانوا شعبا متحضرا، في حياتهم الاجتماعية والفكرية، رغم ضغط الكنيسة على الأفكار والحريات الشخصية، كان ذلك يرى في حياتهم اليومية وفي احتفالاتهم وعاداتهم وفي علاقاتهم الاجتماعية، وهذا منذ خروج العرب من الأندلس سنة 1492.
بين 1492 و1974 كان الإسبانيون ميالين إلى النظام واحترام مواطنيهم، بغض النظر عن الفوارق الطبقية التي جعلت الشعب فئتين، نبلاء وأشباه عبيد. شعب ميال إلى المعرفة والتأنق في المأكل والمشرب، وقد يعيب البعض على المتحضرين أكلهم أمام مائدة واسعة مرتفعة وباستقلالية في أواني الأكل بعضهم عن بعض، لأن في ذلك برودة في العلاقات الاجتماعية، لكن الحقيقة أن الأكل الجماعي من آنية واحدة هو الفوضى بعينها، حيث تصبح المائدة ميدانا للتنافس غير الشريف بين الأضراس القوية والضعيفة، بين بطيء الأكل وسريعه، بين صاحب الشأن ووضيعه. في إسبانيا انتبه الناس منذ قرون إلى أهمية الوادي الحار وتوزيع الماء على البيوت وغير ذلك (في مدينة وليلي كان هناك مجرى لصرف المياه وشبكة لتوزيع الماء في العصر الروماني بينما هناك قرى مغربية كبيرة مجاورة لوليلي اليوم محرومة من هذين المرفقين الحيويين).
الحضارة والتحضر غير مرتبطين بمستوى المعرفة أو الرفاه المادي أو التقدم التكنولوجي، فقد كان "الهنود الحمر" أكثر تحضرا من الأوروبيين الغزاة، والشيء نفسه يقال عن شعوب أمريكا الجنوبية التي هاجمها الغزاة الإسبان بوحشية. واليوم في المغرب تجد أستاذا جامعيا حاصلا على رخصة السياقة يجر أطفاله نحو النقطة الدائرية (rond point) وسط جنون السيارات، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنه متعلم غير متحضر.
تقوم الدولة بمجهود كبير في تجهيز المؤسسات التعليمية بما يناسب الظروف الملائمة للتعلم (عند الإحداث) فيقوم التلامذة بتخريب رهيب لمؤسستهم عمدا، فيدمرون الصنابير ويقتلعون الزليج في المراحيض بعد أن يكسروا أبوابها، ثم يكسرون الطاولات والسبورات ويملأون الحيطان كتابات غير أخلاقية ويسرقون المصابيح ويكسرون الأزرار، لماذا؟ لأن آباءهم وأمهاتهم صنعوا ذلك في طفولتهم ولأن التربية على التحضر غير موجودة في المناهج المدرسية ولا في الحياة الاجتماعية.
حين أرجع إلى الكتب الفرنسية التي كانت مقررة عندنا إلى حدود 1978، (bien lire et comprendre) أجد أن بين الدروس حصصا ترفيهية على شكل ألعاب تدفع المتعلم إلى اكتشاف أخطاء الحياة الاجتماعية وتصحيحها، بمعنى أن الفرنسيين كانوا يهتمون بالتحضر منذ الأيام الأولى للدراسة. وقد تمنيت أن تربينا المدرسة المغربية منذ الصغر وفي كل مقرر لكل سنة، حتى للكبار، أصول الحياة الاجتماعية المتحضرة.
في كل يوم تخرج فيه إلى الشارع المغربي تجد فيه مظاهر انعدام التحضر، أطفال يشعلون النار في جريدة ويلقون بها في صندوق قمامة من البلاستيك، فتيان يتعاونون من أجل تحطيم عمود عليه إشارة "قف"، صاحب دراجة هوائية لا يعنيه الضوء الأحمر ولا الاتجاه الممنوع، كثلة من المواطنين تجتمع كالنحل أمام شباك التذاكر بمحطة القطار أو الحافلات دون صف أو نظام، امرأة تلقي بالأزبال من نافذة بيتها دون شعور بالذنب، سيارات بالمئات تسد الشارع لأن أصحابها ينتظرون فلذات أكبادهم أمام مدرسة خصوصية غير مبالين بالآخرين الذين لا علاقة لهم بالمدرسة ولا بفلذات الأكباد، تحرش جنسي واسع يمس المتبرجات والمتحجبات العفيفات والراغبات على حد سواء، عدائية غريبة بين السائقين فيما بينهم وبينهم وبين الراجلين، هؤلاء الذين لا يعترفون بالممرات الخاصة بهم، ولا السائقون يعترفون بها أيضا. راجلون يسيرون على مهل في الطريق السيار وكأنهم يخرجون من البيت إلى المطبخ، اعتداء على الملك العمومي من طرف الفقراء والأغنياء، حس وطني في الحضيض أهم مظاهره الهروب الجماعي إلى الجنسيات الأجنبية، وهي جناية يرتكبها الفقير والغني معا، تخريب شامل للثروة الغابوية من طرف الجميع، استهتار بالثروة المائية من طرف الميسورين مدنيين وبدويين….. واللائحة طويلة.
اليهود المغاربة الذين عاشوا قبل الإسلام في المغرب، كانوا أكثر تحضرا، في حياتهم الخاصة والأسروية والاجتماعية، كانوا دائما أقلية منظمة، تحترم ضوابط الحياة المتحضرة، فلا تراهم أبدا يمنعون أبناءهم من التعليم، ولا تراهم أبدا يتركون أسرتهم تعيش على الخبز والشاي بينما رب الأسرة يفتك بالشواء في الأسواق كما يفعل الكثير منا، لا تراهم أبدا يتناسلون كالأرانب دون قدرة مادية، لا ترى فيهم الرجل يتزوج امرأة ثانية بينما هو يكتري بيتا مع الجيران وأبناؤه وبناته يتجاوز عددهم الستة أو السبعة، لا يشربون الخمر بشكل فاضح فيدقون أعناق زوجاتهم وأبنائهم. للأسف لم نتعلم منهم شيئا، احتقرناهم واعتبرناهم خنازير يستحقون ذكر "حاشاك" مجاملة لبعضنا البعض، بينما هم يعملون في صمت ويهيئون أنفسهم لهجرة واسعة إلى إسرائيل و فرنسا وكندا وأمريكا، ولو كان القومجيون المغاربة (أصحاب الألسنة الطويلة حادة المضاء) أذكياء لما قهروهم بالتحرش العنصري الذي كانت نتيجته إغراق فلسطين بآلاف العقول والسواعد ممن يشكلون اليوم قوة عسكرية وسياسية وفكرية تعيث فسادا في الشرق الأوسط (حزب شاس مثلا).
هذا بحر من فيض، ولو شئنا أن نعدد مظاهر انعدام التحضر المغربي لما كفتنا آلاف الصفحات. ولعل التوسع الكبير للالتزام الديني عند المغاربة أن يتحول من الاهتمام بالشكليات إلى استغلال المعاملات من أجل تربية حضارية، وأنا شخصيا أفضل أن أعلم ابنتي كيف تمشي في الطريق على الإلحاح في اللباس الإسلامي وشكله ولونه وطوله وعرضه ودرجة لمعانه (لمعان الملابس والتصاقها بالجسد عندهم، دليل على الدعارة وسوء الخلق والميل إلى الفتنة).
نحتاج إلى القسوة مع أنفسنا والاعتراف بأننا شعب ثرثار متباه غارق في النفاق والكذب والادعاء والرياء مهمل للتربية وأصولها، ميال إلى الفوضى والسيبة، متلذذ بخرق القانون. نحن شعب أهمل تربيتنا السياسيون المتناحرون بينهم طويلا، وأفسد حياتنا الأغنياء الفاسدون، وحال بيننا وبين الحياة الكريمة الأقوياء ما فوق القانون، فماذا فعلنا لمواجهة هذه المظالم السياسية الاجتماعية الأخلاقية؟ نقتل بعضنا البعض كل يوم، ماديا ومعنويا، مرة بوعي ومرات دون وعي، فهل نحتاج لطبيب نفسي يشخص حقيقة الداء؟ نعم نحن كلنا مرضى "والله يجيب الشفاء للجميع".
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: